مثل: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت، وقرأت، والمشافهة والمناولة، والمكاتبة، والإجازة، والوجادة، ونحو ذلك، فنقول: الكلام في شيئين:
أحدهما: مما تصح الرواية به، ويثبت به الاتصال.
والثاني: في التعبير عن ذلك، وذلك أنواع:
أحدها: أن يسمع من لفظ المحدث سواء رآه أو لم يره، كما سمع الصحابة القرآن من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والحديث أيضًا؛ وكما كان يقرؤه عليهم، وقرأ على أبي سورة [لم يكن] فإن هذا لم يفرق الناس بينهما كما فرق بعض الفقهاء في الشهادة، ثم ذلك القائل؛ تارة يقصد التحديث لذلك الشخص وحده، أو لأقوام معينين هو أحدهم، وتارة يقصد التحديث المطلق لكل من سمعه منه فيكون هو أحد السامعين، وتارة يقصد تحديث غيره فيسمع هو، ففي جميع هذه المواضع إذا قال: سمعت فلانًا يقول فقد أصاب، وإن قال: حدثنا أو حدثني - وكان المحدث قد قصد التحديث له معينًا أو مطلقًا - فقد أصاب، كما يقول الشاهد فيما أشهد عليه من الحكم والإقرار والشهادات: أشهدني وأشهدنا، وإن كان قد قصد تحديث غيره فسمع هو، فهو كما لو استرعي الشهادة غيره فسمعها، فإنه تصح الشهادة، لكن لفظ أشهدني وحدثنا فيه نظر، بل لو قال: حدث وأنا أسمع كان حسنًا، وإن لم يكن يحدث أحدًا وإنما سمعه يتكلم بالحديث، فهو يشبه الشهادة من غير استرعاء، ويشبه الشهادة على الإقرار من غير إشهاد والشهادة على الحكم، بخلاف الشهادة على الإثبات كالسمع ونحوه، فإنها تصح بدون التحميل بالاتفاق.
وأما الشهادة على الإخبارات؛ كالشهادات والإقرارات، ففيها نزاع ليس هذا موضعه، وباب الرواية أوسع، لكن ليس من قصد تحديث غيره بمنزلة من تكلم لنفسه؛ فإن الرجل يتكلم مع نفسه بأشياء ويسترسل في الحديث، فإذا عرف أن الغير يتحمل ذلك تحفظ؛ ولهذا كانوا لا يروون أحاديث المذاكرة بذاك.
وكان الإمام أحمد يذاكر بأشياء من حفظه، فإذا طلب المستمع الرواية أخرج كتابه فحدث من الكتاب. فهنا ثلاث مراتب:
أن يقصد استرعاءه الحديث وتحميله ليرويه عنه، وأن يقصد محادثته به لا ليرويه عنه، وألا يقصد إلا التكلم به مع نفسه.
والنوع الثاني: أن يقرأ على المحدث فيقربه، كما يقرأ المتعلم القرآن على المعلم، ويسميه الحجازيون العرض؛ لأن المتحمل يعرض الحديث على المحمل كعرض القراءة، وعرض ما يشهد به من الإقرار، والحكم والعقود، والشهادة على المشهود عليه: من الحاكم، والشاهد، والمقر والعاقد، وعرض ضمام بن ثعلبة على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به رسوله فيقول نعم! وهذا عند مالك وأحمد وجمهور السلف كاللفظ.
ولهذا قلنا: إذا قال الخاطب للولي:أزوجت؟ فقال: نعم. وللزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. انعقد النكاح وكان ذلك صريحًا؛ فإن نعم تقوم مقام التكلم بالجملة المستفهم عنها، فإنه إذا قيل لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ واللّه أمركم بذلك؟ وأحدثك فلان بكذا؟ وأزوجت فلانًا بكذا؟ فقال: نعم فهو بمنزلة قوله: وجدت ما وعدني ربي، واللّه أمرني بكذا وكذا، وحدثني فلان بكذا وكذا، وزوجت فلانًا كذا، لكن هذا جواب الاستفهام وذاك خبر مبتدأ، ونعم كلمة مختصرة تغني عن التفصيل.
وقد يقول العارض: حدثك بلا استفهام بل إخبار، فيقول: نعم. ثم من أهل المدينة وغيرهم من يرجح هذا العرض؛ لما فيه من كون المتحمل ضبط الحديث، وأن المحمل يرد عليه ويصححه له، ويذكر هذا عن مالك وغيره. ومنهم من يرجح السماع. وهو يشبه قول أبي حنيفة والشافعي. ومنهم من يجيز فيه أخبرنا وحدثنا، كقول الحجازيين. ومنهم من لا يقول فيه إلا أخبرنا، كقول جماعات، وعن أحمد روايتان. ثم منهم من قال: لا فرق في اللغة وإنما فرق من فرق اصطلاحًا؛ ولهذا يقال في الشهادة المعروضة من الحكم والإقرار والعقود أشهدني بكذا، وقد يقال: الخبر في الأصل عن الأمور الباطنة، ومنه الخبرة بالأشياء، وهو العلم ببواطنها، وفلان من أهل الخبرة بكذا، والخبير بالأمور المطلع على بواطنها، ومنه الخبير. وهو الفلاح الذي يجعل باطن الأرض ظاهرًا، والأرض الخَبَارُ اللينة التي تنقلب، والمخابرة من ذلك.
فقول المبلغ: نعم، لم يدل بمجرد ظاهر لفظه على الكلام المعروف وإنما دل بباطن معناه، وهو أن لفظها يدل على موافقة السائل والمخبر، فإذا قال: أحدثك؟ وأنكحت؟ فقال: نعم فهو موافق لقوله: حدثني وأنكحت، وهذه الدلالة حصلت من مجموع لفظ نعم وسؤال السائل، كما أن أسماء الإشارة والمضمرات إنما تعين المشار إليه والظاهربلفظها، ولما اقترن بذلك من الدلالة على المشار إليه والظاهر المفسر للمضمر.
وأحسن من ذلك أن قوله: حدثني أن فلانًا قال وأخبرني أن فلانًا قال في العرض أحسن من أن يقول: أخبرنا فلان قال: أخبرنا وحدثنا فلان قال: حدثنا، كما أن هذا هو الذي يقال في الشهادة، فيقول: أشهد أن فلان ابن فلان أقر وأنه حكم وأنه وقف، كما فرق طائفة من الحفاظ بين الإجازة وغيرها، فيقولون فيها: أنا فلان أن فلانًا حدثهم، بخلاف السماع.
وقد اعتقد طائفة أنه لا فرق بينهما، بل ربما رجحوا [أن] ؛ لأنهم زعموا فيها توكيدًا، وليس كما توهموا، فإن [أن] المفتوحة وما في خبرها بمنزلة المصدر، فإذا قال: حدثني أنه قال فهو في التقدير حدثني بقوله؛ ولهذا اتفق النحاة على أن [إن] المكسورة تكون في موضع الجمل، والمفتوحة في موضع المفردات، فقوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصلي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 39] ـ على قراءة الفتح ـ في تقدير قوله: فنادته ببشارته، وهو ذكر لمعني ما نادته به وليس فيه ذكر اللفظ. ومن قرأ [إن اللّه] فقد حكي لفظه، وكذلك الفرق بين قوله أول ما أقول: أحمد اللّه، وأول ما أقول: إني أحمد اللّه.
وإذا كان مع الفتح هو مصدر فقولك: حدثني بقوله وبخبره لم تذكر فيه لفظ القول والخبر، وإنما عبرت عن جملة لفظه؛ فإنه قول وخبر، فهو مثل قولك: سمعت كلام فلان وخطبة فلان، لم تحك لفظها. وأما إذا قلت: قال: كذا فهو إخبار عن عين قوله؛ ولهذا لا ينبغي أن يوجب اللفظ في هذا أحد، بخلاف الأول فإنه إنما يسوغ على مذهب من يجوز الروايـة بالمعني، فـإذا سمعت لفظـه وقلت: حدثني فلان، قال: حدثني فلان بكذا وكذا فقد أتيت باللفظ، فإنك سمعته يقول: حدثني فلان بكذا، وإذا عرضت عليه فقلت: حـدثك فـلان بكـذا؟ فقال: نعم وقلت: حـدثني أن فـلانًا حـدثـه بكـذا، فأنت صادق على المذهبين؛ لأنك ذكرت أنه حدثك بتحديث فلان إياه بكذا، والتحديث لفظ مجمل ينتظم لذلك، كما أن قوله: نعم لفظ مجمل ينتظم لذلك، فقوله: نعم تحديث لك بأنه حدثه.
وأما إذا قلت: حدثني قال: حدثني فأنت لم تسمعه يقول: حدثني وإنما سمعته يقول: نعم وهي معناها، لكن هذا من المعاني المتداولة. وهذا العرض إذا كان المحمل يدري ما يقرأه عليه العارض، كما يدري المقرئ، فأما إذا كان لا يدري فالسماع أجود بلا ريب، كما اتفق عليه المتأخرون؛ لغلبة الفعل على القارئ للحديث دون المقروء عليه، والتفصيل في العرض بين أن يقصد المحمل الإخبار أو لا يقصد، كما تقدم في التحديث والسماع.
النوع الثالث: [المناولة، والمكاتبة] : وكلاهما إنما أعطاه كتابا لا خطابا، لكن المناولة مباشرة والمكاتبة بواسطة. فالمناولة أرجح إذا اتفقا من غير هذه الجهة، مثل أن يناوله أحاديث معينة يعرفها المناول أو يكتب إليه بها، والمناولة عرض العرض فإن قوله لما معه.
فإما إذا كتب إليه بأحاديث معينة وناوله كتابا مجملا ترجحت المكاتبة.
ثم المكاتبة يكفي فيها العلم بأنه خطه، ولم ينازع في هذا من نازع في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة بالكتابة، فإنه هناك اختلف الفقهاء هل يفتقر إلى الشهادة على الكتاب؟ وإذا افتقر فهل يفتقر إلى الشهادة على نفس مافي الكتاب؟ أو تكفي الشهادة على الكتاب؟ ومن اشترط الشهادة جعل الاعتماد على الشهود الشاهدين على الحاكم الكاتب، حتى يعمل بالكتاب غير الحاكم المكتوب إليه.
ثم المكاتبة هي مع قصد الإخبار بما في الكتاب، ثم إن كان للمكتوب إليه، فقد صَحَّ قوله: كتب إلى أو أراني كتابه، وإن كتب إلى غيره فقرأ هو الكتاب، فهو بمنزلة أن يحدث غيره فيسمعالخطاب، ولو لم يكاتب أحدًا بل كتب بخطه، فقراءة الخط كسماع اللفظ، وهو الذي يسمونه [وجادة] . وقد تقدم أن المحدث لم يحدث بهذا ولم يرده، وإن كان قد قاله وكتبه، فليس كل ما يقوله المرء ويكتبه يري أن يحدث به ويخبر به غيره، أو أنه يؤخذ عنه.
الرابع: الإجازة: فإذا كانت لشيء معين قد عرفه المجيز، فهي كالمناولة وهي: عرض العرض؛ فإن العارض تكلم بالمعروض مفصلا، فقال الشيخ: نعم! والمستجيز قال: أجزت لي أن أحدث بما في هذا الكتاب فقال المجيز: نعم فالفرق بينهما من جهة كونه في العرض سمع الحديث كله، وهنا سمع لفظًا يدل عليه، وقد علم مضمون اللفظ برؤية مافي الكتاب ونحو ذلك، وهذه الإجازة تحديث وإخبار، وما روي عن بعض السلف المدنيين وغيرهم من أنهم كانوا يقولون: الإجازة كالسماع، وأنهم قالوا: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحد، فإنما أرادوا ـ واللّه أعلم ـ هذه الإجازة، مثل من جاء إلى مالك فقال: هذا الموطأ أجزه لي، فأجازه له.
فأما المطلقة في المجاز فهي شبه المطلقة في المجاز له؛ فإنه إذا قال: أجزت لك ما صح عندك من أحاديثي، صارت الرواية بذلك موقوفة على أن يعلم أن ذلك من حديثه، فإن علم ذلك من جهته استغني عن الإجازة، وإن عرف ذلك من جهة غيره، فذلك الغير هو الذي حدثه به عنه،والإجازة لم تعرفه الحديث وتفيده علمه كما عرفه ذلك السماع منه والعرض عليه؛ ولهذا لا يوجد مثل هذه في الشهادات.
وأما نظير المكاتبة والمناولة، فقد اختلف الفقهاء في جوازها في الشهادات، لكن قد ذكرت في غير هذا الموضع أن الرواية لها مقصودان: العلم، والسلسلة، فأما العلم فلا يحصل بالإجازة، وأما السلسلة فتحصل بها، كما أن الرجل إذا قرأ القرآن اليوم على شيخ، فهو في العلم بمنزلة من قرأه من خمسمائة سنة، وأما في السلسلة فقراءته على المقرئ القريب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعلى في السلسلة، وكذلك الأحاديث التي قد تواترت عن مالك، والثوري، وابن علية، كتواتر الموطأ عن مالك، وسنن أبي داود عنه، وصحيح البخاري عنه، لا فرق في العلم والمعرفة بين أن يكون بين البخاري وبين الإنسان واحد أو اثنان؛ لأن الكتاب متواتر عنه، فأما السلسلة فالعلو أشرف من النزول، ففائدة الإجازة المطلقة من جنس فائدة الإسناد العالي بالنسبة إلى النازل إذا لم يفد زيادة في العلم.
وهل هذا المقصود دين مستحب؟ هذا يتلقي من الأدلة الشرعية، وقد قال أحمد: طلب الإسناد العالي سُنَّة عمن مضى، كان أصحاب عبد اللّه يرحلون من الكوفة إلى المدينة ليشافهوا الصحابة، فنقول: كلما قَرُبَ الإسناد كان أيسر مؤونة وأقل كلفة وأسهل في الرواية، وإذا كان الحديث قد علمت صحته، وأنفلانا رواه، وأن ما يروي عنه لاتصال الرواية فالقرب فيها خير من البعد، فهذا فائدة الإجازة.
ومناط الأمر أن يفرق بين الإسناد المفيد للصحة والرواية المحصلة للعلم، وبين الإسناد المفيد للرواية والرواية المفيدة للإسناد.
واللّه أعلم.
شيخ الإسلام....إبن تيمية